كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاه. عَنْ ابْنِ أَبْزَى عَنْ أبي قال: فَمَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ وَمَا شُبِّهَ عَلَيْك فَآمِنْ بِهِ وَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قال: الْمُتَشَابِهُ هُوَ الْمَنْسُوخُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ الْخَبَرِيَّاتُ مُطْلَقًا فَعَنْ قتادة وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ والسدي: الْمُحْكَمُ النَّاسِخُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ: وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ العوفي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقال: مُحْكَمَاتُ: القرآن نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ. والمتشابهات: مَنْسُوخُهُ وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. أَمَّا الْقول الْأَوَّلُ فَهُوَ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- مَأْخُوذٌ مِنْ قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} فَقَابَلَ بَيْنَ الْمَنْسُوخِ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ وَهُوَ سبحانه إنَّمَا أَرَادَ نَسْخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ؛ لَمْ يُرِدْ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ لَكِنْ هُمْ جَعَلُوا جِنْسَ الْمَنْسُوخِ مُتَشَابِهًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ غَيْرَهُ فِي التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَقرآن وَمُعْجِزٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي مَعَ أَنَّ مَعْنَاهُ قَدْ نُسِخَ. وَمَنْ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ كُلَّ مَا لَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَالْأَقْسَامِ وَالْأَمْثَالِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُتَشَابِهٌ وَلَمْ يُؤْمَرْ النَّاسُ بِتَفْصِيلِهِ بَلْ يَكْفِيهِمْ الْإِيمَانُ الْمُجْمَلُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَعْمُولِ بِهِ فَإِنَّهُ لابد فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ. وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا يَلْزَمُ كُلَّ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ مَعْرِفَةُ مَا يُعْمَلُ بِهِ تَفْصِيلًا لِيَعْمَلُوا بِهِ. وَمَا أَخْبَرُوا بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ حَسَنًا أَوْ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَيْسَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ؛ بِخِلَافِ مَا يُعْمَلُ بِهِ. فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ مَعْرِفَةُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعَمَلِ مُفَصَّلًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِيَّاتِ مُفَصَّلًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: الْمُحْكَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُتَشَابِهٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. فَعَلَى هَذَا الْقول يَكُونُ الْمُتَشَابِهُ هُوَ الْمَذْكُورَ فِي قوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}. وَالْحَلَالُ مُخَالِفٌ لِلْحَرَامِ وَهَذَا عَلَى قول مُجَاهِدٍ: إنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ بِهَذَا مَعَ أَنَّ كُلَّ القرآن مُتَشَابِهٌ وَهُنَا خَصَّ الْبَعْضَ بِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْقول. وَكَذَلِكَ قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} لَوْ أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ تَصْدِيقُ بَعْضِهِ بَعْضًا لَكَانَ اتِّبَاعُ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْذُورٍ وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ بَعْضًا مَا يَمْنَعُ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَقَدْ يُحْتَجُّ لِهَذَا الْقول بِقوله مُتَشَابِهَاتٍ فَجَعَلَهَا أَنْفُسَهَا مُتَشَابِهَاتٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضًا لَيْسَتْ مُتَشَابِهَةً لِغَيْرِهَا. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَيَيْنِ صَارَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ كَقوله: (إنَّا) و(نَحْنُ) الْمَذْكُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ نَجْرَانَ وَنُزُولِ الْآيَةِ قال: الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا واحدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ فِي التَّأْوِيلِ أَوْجُهًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ الْمُحْكَمَ لَا يَكُونُ تَأْوِيلُهُ فِي الْخَارِجِ إلَّا شَيْئًا واحدًا وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَيَكُونُ لَهُ تَأْوِيلَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَكِنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ إلَّا واحدًا مِنْهَا وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ وَحِينَئِذٍ فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا كَمَا يَعْلَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ الْمُحْكَمِ؛ لَكِنَّ نَفْسَ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ وَوَقْتَ الْحَوَادِثِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُونَهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ احْتَجُّوا بِقوله: {بِكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ}وَرُوحٌ مِنْهُ وَلَفْظُ كَلِمَةِ اللَّهِ: يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَخْلُوقُ بِالْكَلَامِ وَرُوحٌ مِنْهُ: يُرَادُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ وَيُرَادُ بِهِ التَّبْعِيضُ فَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ تَأْوِيلُهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ خَلَقَ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ وَلَا كَيْفَ أَرْسَلَ إلَيْهَا رُوحَهُ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ». وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقول ذَلِكَ مَنْ يَقوله مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا الْقول يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ هَذَا تَأْوِيلُ القرآن لَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ أَوْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ مَعْنَيَانِ: يَعْلَمُونَ أحدهُمَا وَلَا يَعْلَمُونَ الْآخَرَ وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقول بِأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ القرآن وَبَيْنَ أَنْ يُقال: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ خَيْرًا مِنْ مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ فَإِنَّ مَعْنَى الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ القرآن مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ قَاطِعًا عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ قال كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ- مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ- وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ قال: أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ.
وَقول أَحْمَد فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شُكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ القرآن وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَقوله عَنْ الْجَهْمِيَّة إنَّهَا تَأَوَّلَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ الْمُتَشَابِهِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَعْنَاهَا؛ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَهُ تَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ تَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ لَيْسَ بِمَذْمُومِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ لِلْمُتَشَابِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ التَّفْسِيرُ فِي لُغَةِ السَّلَفِ. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّ فِي القرآن آيَاتٌ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ مَعْنَاهَا بَلْ يَتْلُونَ لَفْظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ وَهَذَا الْقول اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ قُتَيْبَةَ هُوَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
قال فِيهِ صَاحِبُ (كِتَابِ التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ): وَهُوَ أحد أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ أَجْوَدُهُمْ تَصْنِيفًا وَأَحْسَنُهُمْ تَرْصِيفًا لَهُ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ وَكَانَ يَمِيلُ إلَى مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَكَانَ مُعَاصِرًا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَقولونَ: مَنْ اسْتَجَازَ الْوَقِيعَةَ فِي ابْنِ قُتَيْبَةَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ وَيَقولونَ: كُلُّ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَصْنِيفِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ قُلْت:
وَيُقال هُوَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِثْلَ الْجَاحِظِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ خَطِيبُ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَاحِظَ خَطِيبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا الْقول الْآخَرُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ عَلَى قولهمْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَتْ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ فَتُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَأُولَئِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَرَنَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ بِابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَمَّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ وَقال: {إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ}. وَلِهَذَا ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صبيغ بْنَ عَسَلٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْمُتَشَابِهِ وَلِأَنَّهُ قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقولونَ} وَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ وَاوَ عَطْفِ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ لَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ الَّتِي تَعْطِفُ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لَقال: وَيَقولونَ. فَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ قال: {لِلْفُقراء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} ثُمَّ قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ} الْآيَةُ ثُمَّ قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} قالوا فَهَذَا عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ وَالْفِعْلُ حَالٌ مِنْ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ وَهُوَ نَظِيرُ قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقولونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} قالوا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَخُصَّ الرَّاسِخِينَ بَلْ قال: وَالْمُؤْمِنُونَ يَقولونَ آمَنَّا بِهِ فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ فَلَمَّا خَصَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ عَلِمَ أَنَّهُمْ امْتَازُوا بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَعَلِمُوهُ لِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ وَآمَنُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. وَكَانَ إيمَانُهُمْ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَكْمَلَ فِي الْوَصْفِ وَقَدْ قال عقيب ذَلِكَ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَا تَذَكُّرًا يَخْتَصُّ بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ فَإِنْ كَانَ مَا ثَمَّ إلَّا الْإِيمَانُ بِأَلْفَاظٍ فَلَا يُذَكِّرُ لِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَى مَا أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا قوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ قَرَنَ بِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ فَلَوْ أُرِيدَ هُنَا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ لَقال وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقولونَ آمَنَّا بِهِ كَمَا قال فِي تِلْكَ الْآيَةِ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِالْإِيمَانِ جَمَعَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
قالوا: وَأَمَّا الذَّمُّ فَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهِ وَهُوَ حَالُ أَهْلِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقَدْحَ فِي القرآن فَلَا يَطْلُبُونَ إلَّا الْمُتَشَابِهَ لِإِفْسَادِ الْقُلُوبِ وَهِيَ فِتْنَتُهَا بِهِ وَيَطْلُبُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَيْسَ طَلَبُهُمْ لِتَأْوِيلِهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَالِاهْتِدَاءِ بَلْ هَذَا لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ وَكَذَلِكَ صبيغ بْنُ عَسَلٍ ضَرَبَهُ عُمَرُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْمُتَشَابِهِ كَانَ لِابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَهَذَا كَمَنْ يُورِدُ أَسْئِلَةً وَإِشْكَالَاتٍ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ وَيَقول ماذا أُرِيدَ بِكَذَا وَغَرَضُهُ التَّشْكِيكُ وَالطَّعْنُ فِيهِ لَيْسَ غَرَضُهُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقوله: {إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وَلِهَذَا يَتَّبِعُونَ أَيْ يَطْلُبُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَقْصِدُونَهُ دُونَ الْمُحْكَمِ مِثْلَ الْمُتَّبِعِ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ وَيَقْصِدُهُ وَهَذَا فِعْلُ مَنْ قَصْدُهُ الْفِتْنَةُ. وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَنْ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ لِيَعْرِفَهُ وَيُزِيلَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الشُّبَهِ. وَهُوَ عَالِمٌ بِالْمُحْكَمِ مُتَّبِعٌ لَهُ مُؤْمِنٌ بِالْمُتَشَابِهِ لَا يَقْصِدُ فِتْنَةً فَهَذَا لَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَقولونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلَ الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي رَوَاه. إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني وَقَدْ ذَكَرَهُ الطلمنكي- حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ ثَنَا بَقِيَّةُ ثَنَا عتبة بْنُ أَبِي حَكِيمٍ ثَنِيّ عِمَارَةُ بْنُ رَاشِدٍ الْكِنَانِيُّ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قال: يَقرأ القرآن رَجُلَانِ فَرَجُلٌ لَهُ فِيهِ هَوًى وَنِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ يَلْتَمِسُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ أَمْرًا يَخْرُجُ بِهِ عَلَى النَّاسِ أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِهِمْ أُولَئِكَ يُعْمِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الْهُدَى وَرَجُلٌ يَقْرَؤُهُ لَيْسَ فِيهِ هَوًى وَلَا نِيَّةٌ يُفَلِّيهِ فَلْيَ الرَّأْسِ فَمَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْهُ عُمِلَ بِهِ؟ وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَكَلَهُ إلَى اللَّهِ لِيَتَفَقَّهُنَّ فِيهِ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ حَتَّى لَوْ أَنَّ أحدهُمْ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُبَيِّنُ لَهُ الْآيَةَ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ يُفَهِّمُهُ إيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ.
قال بَقِيَّةُ أَشْهَدَنِي ابْنُ عُيَيْنَة حَدِيثَ عتبة هَذَا. فَهَذَا مُعَاذٌ يَذُمُّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ لِقَصْدِ الْفِتْنَةِ وَأَمَّا مَنْ قَصْدُهُ. الْفِقْهَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ لابد أَنْ يُفَقِّهَهُ بِفَهْمِهِ الْمُتَشَابِهَ فِقْهًا مَا فَقِهَهُ قَوْمٌ قَطُّ قالوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إذَا عَرَضَ لِأحدهِمْ شُبْهَةٌ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ فَقال: أَلَمْ يَكُنْ تَحَدَّثْنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ وَسَأَلَهُ أَيْضًا عُمَرُ: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ آمَنَّا؟ وَلَمَّا نَزَلَ قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقالوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} شَقَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ وَلَمَّا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» قالتْ عَائِشَةُ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟ قال: «إنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ».
قالوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا جَمِيعَ القرآن وَقال مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَتَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قال أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقرئونَنَا القرآن عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قالوا فَتَعَلَّمْنَا القرآن وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا وَكَلَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ القرآن إلَّا مَا قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَيَقِفُ فِيهِ لَا لِأَنَّ أحدا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ لَكِنْ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ القرآن مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُتَدَبَّرُ وَلَا قال: لَا تَدَبَّرُوا الْمُتَشَابِهَ وَالتَّدَبُّرُ بِدُونِ الْفَهْمِ مُمْتَنِعٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ القرآن مَا لَا يُتَدَبَّرُ لَمْ يُعْرَفْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزْ الْمُتَشَابِهَ بِحَدٍّ ظَاهِرٍ حَتَّى يُجْتَنَبَ تَدَبُّرُهُ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَيَقولونَ الْمُتَشَابِهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى هَذَا مَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ قالوا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ القرآن بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ بِدُونِ فَهْمِ الْمَعْنَى قالوا: وَلِأَنَّ مِنْ الْعَظِيمِ أَنْ يُقال: إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَا هُوَ وَلَا جِبْرِيلُ بَلْ وَعَلَى قول هَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مُتَشَابِهِ القرآن عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَقوله وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَقَلِّ النَّاسِ.
وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِفْهَامُ فَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ ذَلِكَ كَانَ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَاَللَّهُ تعالى قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ فَكَيْفَ يَقول الْبَاطِلَ وَالْعَبَثَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُنَزِّلُهُ عَلَى خَلْقِهِ لَا يُرِيدُ بِهِ إفْهَامَهُمْ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْمُلْحِدِينَ. وَأَيْضًا فَمَا فِي القرآن آيَةٌ إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي مَعْنَاهَا وَبَيَّنُوا ذَلِكَ وَإِذَا قِيلَ فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ قِيلَ كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَآيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مَعْنَاهَا وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يَكُونُ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا يَكُونُ فِي آيَاتِ الْخَبَرِ وَتِلْكَ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ لِمَعْنَاهَا فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ عَلَى قول الْنُّفَاةِ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى الْمُتَشَابِهُ إلَّا اللَّهُ لَا مَلَكٌ وَلَا رَسُولٌ وَلَا عَالِمٌ وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُتَشَابِهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ التَّأْوِيلِ يَكُونُ لِلْمُحْكَمِ كَمَا يَكُونُ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا دَلَّ القرآن وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُحْكَمِ فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ وَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَنْفَرِدَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَالْمُحْكَمُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهُ لِعِبَادِهِ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ فِي الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَسْتَأْثِرَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهُ وَمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَوَقْتِ السَّاعَةِ لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ خِطَابًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي القرآن آيَةً تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ السَّاعَةِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُطْلِعْ عِبَادَهُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَلَامٍ أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُدًى وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ ثُمَّ يُقال إنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أحد مَعْنَاهُ وَلِهَذَا صَارَ كُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ آيَاتٍ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَاهَا يَجْعَلُهَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ثُمَّ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةُ أَهْلِ نَجْرَانَ وَقَدْ احْتَجُّوا بِقوله (إنَّا) و(نَحْنُ) وَبِقوله: {كَلِمَةٌ} مِنْهُ و{رُوحٌ} مِنْهُ وَهَذَا قَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ يُقال: إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا أحد مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَتَدَبَّرَهُ وَنَعْقِلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَانٌ وَهُدًى وَشِفَاءٌ وَنُورٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَعَانِيهِ وَلَوْلَا الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ التَّكَلُّمُ بِلَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ. وَقَدْ قال الْحَسَنُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي ماذا أُنْزِلَتْ وماذا عُنِيَ بِهَا. وَمَنْ قال: إنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ سُؤَالُ الْيَهُودِ عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي (الم) بِحِسَابِ الْجُمَلِ فَهَذَا نَقْلٌ بَاطِلٌ. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ قالوهُ فِي أَوَّلِ مَقْدِمٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إنَّمَا نَزَلَ صَدْرُهَا مُتَأَخِّرًا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ وَفِيهَا فُرِضَ الْحَجُّ وَإِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ لَمْ يُفْرَضْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ وَدِلَالَةَ الْحَرْفِ عَلَى بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ القرآن الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يُقال إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَلَا يُقال إنَّهُ انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ بَلْ دَعْوَى دِلَالَةِ الْحُرُوفِ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ وَإِمَّا أَنْ يُقال بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ ذَلِكَ أَمَّا دَعْوَى دِلَالَةِ القرآن عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ أحدا لَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي القرآن لَا يَعْرِفُهَا الرَّسُولُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ قَدْحِ الْمَلَأحدةِ فِيهِ وَكَانَ حُجَّةً لِمَا يَقولونَهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعِلْمِيَّةَ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ هَذَا الْقول يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَا يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ وَلَا غَيْرُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ قول مَنْ يَقول: إنَّ فِي القرآن آيَاتٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ.